عرف الإنسان النحل منذ قديم الزمان، وقدّر له جده ومثابرته وإخلاصـه وتفانيه في دفاعه عن مسكنه. وقد دلت الآثار الباقية حتى اليوم في قبور المصريين وفي المعابد القديمة في الهند على أن النحل سبق الإنسان في ظـهوره على الأرض، وعليه فإن تربية النحل بدأت منذ أزمنة كثيرة تفوق ما دونته كتب التاريخ القديمة.
النحل: مخلوق عجيب ومدهش
إذا أردنا أن نعطي النحل حقه، فإن كل ما تم ذكره من منتوجات للنحل قد يقع في جانب واحد، بينما يقع في الجانب الآخر تلك الدهشة التي يبعثها النحل في مربيه، والمتعامل معه عن قرب كالنحال، أو المشاهد أو حتى القارئ. فمن يرى ما يجري داخل الخلية من عمل دؤوب ونشاط موصول في ظل نظام غريزي غاية في الدقة والإتقان، فإنه تتملكه الرغبة في الجلوس طويلاً بين الخلايا والتلذذ بما يرى من بديع خالق السماوات والأرض، في هذه النحلة الضعيفة من أفعال تفوق الوصف، ويكفي أن نعلم أن هذه النحلة “العاملة” تقوم بالطيران لمسافة قد تصل إلى مائتين وأربعين ألف كيلومتر لتجمـ ع ما مقداره كيلو غرام واحد من العسل، أو ثمان وأربعين ألف رحلة.
التربية البدائية للنحل
ظلت تربية النحل بدائية، ولم يهجن الإنسان النحل إلا بعد استعماله لخلايا الطين، أو التجاويف التي كان يحدثها الإنسان في جذوع الأشجار الكبيرة، وكان الحصول على العسل يتم بطرق بدائية أيضًا، إما بانتزاع الأقراص المملوءة بالعسل وعصرها، وعصر كلّ ما هو في الأقراص من بيـوض أو يرقات، ثم تصفيته وخزنه، أو بقطع بعض الأقراص أو كشط المـادة الشـمعية المغلفة للعسل، لتسييل العسل منها فيجمع على هذا النحو، فيؤكل منه أو يستعمل في صناعة الخل أو الحلوى. وكان اكتشافه قبل اكتشاف الإنسان للسكر. أمـا شمع النحل، فقد استعمله المصريون القدماء والهنود الحمر في أمريكـا قبـل أن تكتشف في لف أكفان موتاهم وذلك بإذابته وتحنيط الجثث به.
التربية المتطورة
حين ازداد اهتمام الإنسان بالنحل وإنتاج العسل أخذ يصنع خلايا النحل من القش أو القصب أو الأغصان النباتية اللينة على هيئة سـلال أو أقفـاص أو مراجين أو جون. ولم يهتدِ الإنسان إلى الصناديق الخشبية إلا في سنة 1851 م على يد العالم “لانغستروث” (Langstroth) الذي لاحظ أن النحل يترك مسافة أو ممرًا ضيقًا بين أقراصه لا تزيد أو تقل عن ربع بوصة دائمًا، والتي تسمى عند العلماء والمربين “المسافة النحلية” (bee space) مما مكنه من استغلال هذه الظاهرة وصنع الإطارات (الأقراص الشمعية) المتحركة، فكان لابد من صناعة الخلية الحديثة الخشبية التي تسمح باحتواء هذه الأقراص، ويسرت حركتها، وحركة النحل عليها باستغلال تلك المسافة.
وقد نجح “لانجستروث” بصناعة هذه الخلية التي تعتبر الأولى في عـالم تربية النحل، ليبدأ إنتاج العسل بطريقة علمية مدروسة بعناية ودقة فائقة، ويكو الناتج من العسل خاليًا من الشوائب أو من البيوض واليرقات بعد أن تم الفصـل بين الخلية أي الأقراص التي تصنع فيها الملكة البيض، وبين العاسلة التي تصنع فيها العاملات العسل، وقد تمكن المربّون من خلال استعمال هذه الخلايـا مـن الكشف بسهولة على خلاياهم، وإخراج الإطارات وإعادتها إلى الخليـة بيسـر وسهولة، وتفقد أوضاع الملكة والكشف عما تعانيه الخلية مـن أمـراض تبـدو مظاهرها جلية على تلك الأقراص.
انتشار وتطور تربية النحل في العالم
في عالم تربية النحل، كان اكتشاف “لانجستروث” للخلية الخشبية نقطة تحول مهمة. فقد أتاح هذا الاكتشاف للمربين تربية النحل بطريقة أسهل وأسرع وأكثر نظافة. وقد انتشر هذا الخبر بسرعة بين المربين، وأصبحوا يستخدمون هذه الخلايا الحديثة في تربية النحل. وقد لفت هذا الابتكار انتباه وسائل الإعلام، وأصبح موضوعاً للمجلات والصحف. وقد أدى هذا إلى تحسن نوعية وكمية العسل المنتج، وزيادة اهتمام الناس بتربية النحل. خصوصاً عندما ظهرت في [الولايات المتحدة] أول مجلة متخصصة في موضوع [النحل] وفوائده في عام 1861 م.
ولم يقف التطور على مستوى الخلايا فقط، بل شمل أيضاً مجالات أخرى تتعلق بالنحل والعسل. فقد ازدهرت الأبحاث والدراسات عن النحل] والعسل، وكشفت عن القيمة الغذائية والدوائية للعسل. وقد زاد الطلب على العسل، وارتفع سعره، وأصبح من المواد المهمة في حياة الإنسان. كما عُقِدَت المؤتمرات العلمية التي ناقشت قضايا النحـل، وبحثت في سلوكه، وخصائصه، وإنتاجه. كما نشرت الكتب والمؤلفات التي تضمنت معلومات جديدة ووافية عن النحل. كما قدَّمَت الإرشادات للمربين لزيادة فعالية أعمالهم، وجودة إنتاجهم.
استخدام النحل في تطوير الزراعة
اختراع أساس الأقراص الشمعية
يعلم النحالون أن النحل يحتاج إلى استهلاك ١٥ رطلاً من العسل لإنتاج رطل واحد من الشمع. وكانت طريقة تربية النحل في الماضي تتطلب من النحل جهداً كبيراً في بناء أقراصه الشمعية. فكانوا يضعون إطارات خالية من الشمع في الخلايا، مع قطعة صغيرة من الشمع في أحد زواياها، لتكون نقطة انطلاق للنحل في تشكيل الأقراص. وكان هذا يستهلك كمية كبيرة من العسل، ويزيد من مدة عملية التربية.
في عام ١٨٥٦م، قام العالم الألماني يوهانز مهرينغ Iohannes Mehring بابتكار أول أساس شمعي لإطارات النحل. وهو عبارة عن شريحة من الشمع تحمل نقوشاً تشبه الخلايا السداسية التي يستخدمها النحل في بناء أقراصه. وقد نجح هذا الابتكار في تسهيل عملية تربية النحل، وزيادة إنتاجية العسل. وقد لقي هذا الابتكار اهتماماً عالمياً، وتم إدخال تحسينات عديدة على صناعة وجودة الأساسات الشمعية، حتى أصبحت أفضل من التي يصنعها النحل ذاتياً.
مجالات أخرى للبحث والابتكار في تربية النحل
ولم يقف التطور على اختراع أساسات الأقراص الشمعية فقط، بل امتد إلى مجالات أخرى مهمة في تربية النحل. من هذه المجالات:
- دراسة ومكافحة الآفات والأمراض التي تصيب النحل، وإيجاد علاجات فعالة لها.
- تصنيف وتهجين أصناف وأنواع وسلالات النحل، وتحديد خصائص كل منها، والبحث عن أفضل سبل لزيادة إنتاجه.
- اختراع طرق جديدة لفرز وتصفية وتخزين العسل، بحيث يكون خالياً من أي شوائب أو مواد غير مرغوب فيها.
- استطبابات وفوائد وأصناف مختلفة من العسل، وكيفية إنتاجها وتسويقها.
ومن أهم الاختراعات في هذا المجال، فراز العسل الآلي، الذي اخترعه النمساوي فرانز فون هروشكا Franz von Hruschka في عام ١٨٦٥م. وهو عبارة عن جهاز يستخدم قوة الطرد المركزي لإخراج العسل من الأقراص الشمعية، دون تلفها أو تلويثها. وقد تم تطوير هذا الجهاز بشكل مستمر، وتحسين أدائه وكفاءته.
وما زال مربو النحل يبحثون ويدرسون كل ما هو جديد ومفيد في تربية النحل، وإنتاج العسل، والاستفادة من خصائصه وفوائده.ولـهذا فقط أصبحت تربية النحل فنًا من الفنون الإنسانية الرفيعة المسـتوى، فتعشـقها الكثيرون، وتفنن الأطباء والصيادلة في إجراء البحوث، فلا يكاد يمـر يـوم إلا وتسجل به الدراسات، وتعلن فيه الاكتشافات عن فوائد العسل وأهميته في حيـاة الإنسان وفي صنع غذائه ودوائه، وأصبحت الخبرة في تربية النحل أكثر أهميـة، ومطلبًا من الخبرة في مجالات الزراعة الأخرى.
No Comment! Be the first one.