تتميز مملكة النحل بالنظام الدقيق الذي يسود في هذه المملكة العظيمة، التي تحكمها ملكة واحدة، يتعاون معها كل أفراد الطائفة بما يضمن قوتها ومنعتها. يقوم النحل بالعمل المنتج والإيثار المستمر والإنكار للذات في سبيل خدمة الجماعة، وهذه الأفعال تتحقق بالغريزة والفطرة والإلهام الإلهي.
الترابط والانتماء في طائفة النحل
العاملات في الخلية، يتحملن مسؤولية حضانة الصغار (اليرقات) ويقمن بتغذية هذه اليرقات، ويستبسلن للدفاع عن الخلية، بكل قوة وشجاعة وإقدام، حتى تهون النفس مقابل هذا الدفاع.يؤمن النحل بالغريزة أنه لا يستطيع أن يعيش منفرداً وأنه بحاجة إلى جماعته ليستمر في الحياة. لعله يردّد في ذاته قول الشاعر:
تأبى الرِّماحُ إذا اجتمعن تكسرا ** وإذا افترقن تكسرت آحادا
النحل يؤمن بهذا، فهو يعيش عيشة تعاونية مثمرة، ويسعى لحشد عشرات الألوف من أفراده، الذين يعتبرهم “عزوة” له وركيزة من ركائز قوة طائفته ومنعتها واستمرارها، وبقائها وتكاثرها. والنحلة تعرف بالغريزة أنها إذا انفصلت عن طائفتها، ضاعت، وتشتت وهلكت. لهذا نرى تعلقها بمسكنها وبجماعتها تعلقً شديدً يجد فيه الإنسان مثلاً يحتذى.
التنظيم والتقسيم في طائفة النحل
أما تنظيم الخلية من الداخل وتقسيم الأعمال والأدوار فهو في غاية الدقة، التي تحير العقول، وتأخذ بالألباب، وتثير الدهشة والإعجاب. كل فرد له عملاً ثابتً ومحددً داخل الخلية، كما أن له عملاً ثابتً ومحددً خارج الخلية. يقوم بهذان الفرديْ على أكمل وجه ودون توقف، أو إحساس بالملل والكلل، أو تهاون أو تراخي. ولأداء هذا الدور فإن الفرد يبذل أقصى جهده، وكامل طاقته، وشديد إخلاصه، وغاية تفانيه ووفائه لهذه الطائفة، ويستميت في أداء واجباته.
عدد النحل في الطائفة
يعتمد عدد النحل في الطائفة على عوامل كثيرة منها قوة الملكة أو ضعفها في وضع البيض. كلما كانت الملكة نشيطة في ذلك كان عدد أفراد الطائفة كبيرً. وقد يبلغ في حده الأعلى مائة ألف نحلة. لكن هذا العدد يجبر النحل على التطريد، ما لم يقم المربي بإجراء القسمة، وجعل هذه الطائفة في طائفتين.
كما يعتمد عدد النحل في الطائفة على عامل الفصل. حيث يبدأ عدد النحل في الطائفة بالتناقص التدريجي في الشتاء، أو في بداية الخريف. وذلك بسبب نقص الغذاء في الحقول، أو بسبب قلة نشاط الملكة في وضع البيض. وهذا العامل هو سبب مباشر في فناء الطائفة شتاء.
لكن الأمر يختلف في الربيع تمامً. فحين يحل الربيع يزداد نشاط العاملات في جلب الرحيق وحبوب اللقاح من الحقول. فتنشط الملكة وتبدأ بوضع البيض بكثافة تتناسب مع عمرها ونشاطها. فيزداد عدد النحل تدريجيً إلى أن يصبح بين الخمسين إلى المائة ألف.
الاختلاف الجنسي في طائفة النحل
يختلف أفراد الطائفة من حيث الجنس داخل الخلية الواحدة. فهناك الأنثى الوحيدة القادرة على وضع البيض وهي “الملكة” وهناك بضع عشرات أو مئات من الذكور، وهناك عشرات ومئات الألوف من العاملات أو البرقات. فما سر هذا الاختلاف؟
يرجع سر هذا الاختلاف في الأصل إلى الفطرة التي فطر الله عليها النحل، والغريزة التي هيأها بها لتخدم نفسها أولً، ولتخدم الإنسان ثانيً. أما عدد العاملات الضخم فيعود للمهمة التي أوكلها الله إليها، وعهد بها إليها، وهي القيام بجمع الرحيق وتصنيع العسل “الذي فيه شفاء للناس” . وأما بضع مئات، أو بضع عشرات، أو لا شيء إطلاقً من الذكور خاصة بعد التطريد، ففيه سر إلهي وهو أن هذه الذكور تنتهي مهمتها بتلقيح الملكة، وأن بقائها في الخلية يشكل عامل هدم، بسبب ما تلتهمه بشراهة من عسل وحبوب لقاح. وأما الملكة الواحدة فهو أيضً سر إلهي، وإشارة خفية لعظمة المخلوق في أداء دورها في تنظيم الخلية، وعبرة ودليل على إعجاز الخالق، وإعجاز القرآن.أما الأسباب الظاهرية للاختلاف هؤلاء الأفراد جنسيً فيعود إلى عمل الملكة، والذي يتلخص في نوع البيض الذي تضعه. يكون عادة على نوعين: مُلَقَّح وغير مُلَقَّح. أما المُلَقَّح فهو الذي ينتج يرقات الملكات ويرقات العاملات. وأماالبيض غير المُلَقَّح فهو الذي ينتج الذكور.
مظاهر الاختلاف في الخلية
ويظهر نوع البيض من خلال النظر إلى الإطارات الشمعية التي تحتوي عليها الخلية، وإبصار العيون السداسية “النخاريب” التي يبينها النّحل بقياس أربع:
- العيون السداسية الضيقة وتضع فيها الملكة البيوض التي تنتج العاملات.
- العيون السداسية دون المتوسطة وتخصصها الملكة للعاملات ليقمن بوضع العسل وحبوب اللقاح فيها، أو مزج العسل بحبوب اللقاح لإنتاج الغذاء الرئيسي للنحل أو ما يسمى ب “خبز النّحل”.
- العيون السداسية المتوسطة، وتضع فيها الملكة البيوض غير الملقحة والتي تنتج الذكور.
- العيون السداسية أو الدائرية على وصف أدق، وهي كبيرة وتشبه حبة الفول (الفستق) السوداني غير المقشرة، ويكون بابها متجهً إلى الأسفل أو مائلاً كثيرً إلى الأسفل، وتضع فيها الملكة “يرقات الملكات” ويسمى هذا “بيت الملكات”، وينتج عن بيض ملقح [Queen cells].
تفسير علمي لتنوع النحل
يقول بعض العلماء ممن لم تستوعب أذهانهم الحكمة الإلهية أن تحديد نوع البيض ملقحً أو غير ملقح يعود إلى حجم العين السداسية. فإذا كانت هذه العين السداسية ضيقة اضطرت الملكة إلى ضغط نفسها لإدخال بطنها من الخلف إلى قاع العين السداسية لوضع البيضة، التي تصبح ملقحة بسبب ضغط جدران العين السداسية على جسم الملكة، مما يجعل الكيس المنوي الذكري الذي تحتفظ به الملكة في جهازها التناسلي منذ لحظة التلقيح، وهذا الضغط يخرج الحيوان المنوي من الكيس، فيدخل إلى البيضة عبر ثقب من التقوب التي تتوزع على جدرانها، فيتم التلقيح وتكون البيضة ملقحة، وتنتج عنها النّحلة العاملة.
والحقيقة أنّ في هذا شيء كثير من المغالطة وعدم الفهم كما أن فيه بعض الحقائق العلمية الصحيحة التي تتمثل في تلقيح البويضة من خلال الحيوان المنوي الذي يدخل البيضة ويلقحها، والذي يخرج حقيقة من الكيس المنوي الذي تحتفظ به الملكة في جهازها التناسلي.
ولكن المغالطة وعدم الفهم تتأتى من افتراض أن حجم العين السداسية هو ما يحدد نوع التلقيح. فهذا غير منطقي، بدليل أن الملكة تضع بيضً ملقحً في بيوت الملكات الفسيحة، دون أن تحتاج إلى ضغط نفسها، أو تنتظر من الجدران أن تضغط عليها. وعلى مثل هؤلاء أن يدركوا أن ما تقوم به الملكة من عمل إنما هو راجع للغريزة التي قدرها سبحانه وتعالى فجعلها تحدد نوع البيض بما تحتاج إليه الخلية، وبما يخدم نموها وتكاثرها ويخدم الإنسان الذي سخرها لخدمته، وإنتاج الغذاء العظيم له، لأن “فيه شفاء للناس” .
No Comment! Be the first one.