في سورة النحل من القرآن الكريم، ذكر الله سبحانه وتعالى حال النحل وكيف أوحى إليه بأمور تدل على حكمته وقدرته. فالنحل خلقة ضعيفة وصغيرة، ولكنها تمتلك قدرات عجيبة في بناء بيوتها وإنتاج شراب مفيد للناس. فلنتأمل في هذه الآيات الكريمات ونستفيد من دروسها.قال تعالى: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) [النحل: 68]. ففي هذه الآية دليل على مكانة النحل ورفعته، فإن الإيحاء أو الإلهام هو ما يخلقه الله تعالى في القلب من غير سبب ظاهر، وهو خاص بالأنبياء والرسل والمختارين من خلقه. فالله سبحانه أوحى إلى موسى عليه السلام، وأوحى إلى الملائكة، وأوحى إلى أم موسى، وأوحى إلى النحل. فهذا يدل على أن النحل من المخلوقات التي عرف الله قدرها وشرفها بهذا الإيحاء الرباني. ولا يكون هذا الإيحاء إلا لمن ظهرت فيه علامات الصلاح والطاعة والخير.
اختيار النحل لبيوته
قال تعالى: (ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 69]. ففي هذه الآية دليل على حكمة النحل في اختيار بيوته من ما يصلح لحياته من أماكن مخصصة في الجبال أو الشجر أو المظاليل. فالجبال توفر له الأمن والسلامة والبرودة، والشجر توفر له الغذاء والظل والماء، والمظاليل توفر له الحماية والتغطية. وقد ثبت علميا أن العسل الذي يتكون من أزهار الجبال هو الأفضل والأنفع للإنسان والنحل. والنحل يختار هذه الأماكن بإلهام من ربه الذي جعل له سبلا ذلولا، أي ميسرة ومنسجمة مع طبيعته.
هندسة النحل في بناء بيوته
قال تعالى: (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) [النحل: 68]. ففي هذه الآية دليل على إعجاز النحل في بناء بيوته على شكل سداسي متناسق ومتصل. فقد تبين رياضيا أن الشكل السداسي هو الأمثل للاستغلال الأفضل للمساحة والقوة والثبات. فلا يوجد فراغ بين الخلايا، ولا يحتاج إلى مادة كثيرة لبنائها، ولا يتأثر بالضغط أو الانحناء. وهذا يدل على عظمة الخالق الذي ألهم هذه النحلة الضعيفة سر الصنعة اللطيفة. ولا يستطيع أحد من المهندسين أو المصانع أن يصنع مثل هذه البيوت بدقة متناهية.
ولا شك أن الإنسان قد استفاد كثيرا من صناعة النحل، وحاول أن يقلدها في بعض جوانبها. ومن ذلك محاولة المصانع لصناعة الأساس الشمعي، وهو عبارة عن أوراق شمعية محفورة عليها أشكال سداسية تسهل على النحل بناء خلاياه. ولكن هذه المحاولة لم تتجاوز حدود صناعة هذه الأوراق فقط، دون أن تتدخل في بناء الخلايا نفسها. فالبناء يبقى حكرا على النحل، الذي يستطيع أن يبني خلايا متساوية في الشكل والحجم والزاوية بدقة متناهية، دون أي مساعدة من المصانع أو المهندسين. فسبحان الذي أوحى إلى هذه الحشرة سر البناء المثالي.
جمع الغذاء من كل الثمرات
قال تعالى: (ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُولًا) [النحل: 69]. ففي هذه الآية دليل على نشاط النحل في جمع غذائه من كل أنواع الزهور التي تفتح قبل انعقاد الثمار. فالزهور تحتوي على رحيق وغبار لقاح، وهما مصدر غذائي غني للنحل. والرحيق هو سائل حلو يفرزه غدد خاصة في قاعدة التويجات، والغبار لقاح هو حبوب صغيرة تغطي أعضاء التكاثر في الزهور. والنحل يستخدم جزء من هذه المواد لإطعام نفسه ويرقاته، وجزء آخر لإنتاج الشمع والعسل. وفي جمع هذه المواد فائدة كبيرة للاستطلاع، فإذا كانت حبوب لقاح الزهرة الأنثوية لم تصل إلى أعضاء التكاثر في الزهرة الذكرية، فإن الثمرة لا تنعقد. والنحل يساهم في نقل حبوب اللقاح من زهرة لأخرى بواسطة شعيرات دقيقة تغطي رجليه. وهكذا يكون النحل عاملا مهما في تلقيح النباتات وإنتاج الثمار. والنحل يسير في سبل ربه ذلولا، أي ميسرة ومطيعة لأوامره، ولا يخرج عن حدوده.
إنتاج العسل من بطونه
قال تعالى: (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ) [النحل: 69]. ففي هذه الآية دليل على عجائب الخلق في جسم النحل، وكيف يستطيع أن يحول الرحيق إلى عسل في بطونه. فالرحيق هو سائل حلو يحتوي على نسبة عالية من الماء والسكريات، والعسل هو سائل أكثر كثافة وأقل رطوبة وأكثر حلاوة وفائدة. فكيف يتم هذا التحول؟
الجواب هو أن النحل يستخدم آلات خاصة في جسمه لتغيير تركيب الرحيق. فعندما يمتص النحل الرحيق بخرطومه، يضخه إلى معدة خاصة تسمى معدة العسل، وهي جزء من ثلث حلقات البطن. وفي هذه المعدة، تفرز غدد خاصة إنزيمات تحول جزء من السكروز إلى جلوكوز وفركتوز، وتزيل جزء من الماء. ثم يسترجع النحل هذا السائل المغير من معدته إلى خرطومه، ثم يصبه في خلايا شمعية على شكل قطرات صغيرة. ثم تقوم نحلات أخرى بتبادل هذه القطرات بأفواهها لإضافة المزيد من الإنزيمات وإزالة المزيد من الماء. ثم تستخدم نحلات أخرى أجنحتها لتوليد تيار هوائي داخل الخلايا لتبخير الماء المتبقي. وبعد هذه المراحل، يصبح السائل عسلا ناضجا، وتغطي النحل خلاياه بشمع رقيق لحفظه.
ولكن هذا ليس كل شيء، فالعسل لا يخرج من بطون النحل كشراب مفيد للناس فقط، بل كشراب مختلف ألوانه. فالعسل يتغير لونه حسب نوع الزهور التي يتغذى منها. فالزهور تختلف في ألوانها وأشكالها وروائحها ونكهاتها، وهذا ينعكس على لون العسل ورائحته وطعمه. فمن العسل ما هو أصفر ومنه ما هو بني ومنه ما هو أحمر، ومن العسل ما هو عطري ومنه ما هو حامضي ومنه ما هو حلو، ومن العسل ما هو سائل ومنه ما هو كثيف. وكل هذه الألوان والروائح والنكهات تزيد من فائدة العسل للناس، ففي كل لون من العسل مادة مفيدة لجسم الإنسان، وفي كل رائحة من العسل دافع للشهية، وفي كل نكهة من العسل دواء لبعض الأمراض. فإن في ذلك لآية لقوم يتفكرون في خيرات الله وآياته.
No Comment! Be the first one.